بصفته أحد وجهاء حي بريد الروضة شرقي مدينة تعز اليمنية، يستقبل منير الأكحلي تبرعات ضئيلة من السكان بما يكفل نصب ساتر من الصفيح يحجبهم عن مرأى القناصين الحوثيين المتمركزين في معسكر الأمن المركزي.
ويقع الحي في محيط المنفذ الشرقي للمدينة على خط التماس بين المقاتلين الحوثيين والقوات الموالية للحكومة المعترف بها دوليا.
وأُجبر السكان على مغادرة الحي قبل أن يعود إليه بعضهم مضطرا، ومن بينهم الأكحلي الذي يقول إن الحي صار محاصرا بالمدفعية والقناصة والحياة فيه مجازفة.
ويشرح للجزيرة نت "أجبرني الحوثيون على مغادرة منزلي منتصف الليل، وصرت نازحا؛ وبعد أشهر خاطرت بالعودة، وساتر الصفيح منحنا بعض الحماية، وقبل ذلك سقط الكثير منّا برصاص القناصة، من بينهم صهري".
منافذ مغلقة
ومنذ اندلاع القتال في اليمن عام 2015، تسيطر القوات الموالية للحكومة على وسط مدينة تعز، بينما يُحكِم الحوثيون سيطرتهم على ضواحيها الشرقية والشمالية والغربية، بما في ذلك المنافذ الرئيسية للمدينة التي تحيط بها المرتفعات الجبلية من الجنوب.
وقد طوّق الحوثيون المدينة تماما ولم يبقَ أمام حوالي 800 ألف شخص - بحسب تقديرات سكانية - إلا سلوك الجبال على الأقدام والاعتماد على المواشي في نقل الأدوية والمواد العاجلة، قبل أن تستعيد القوات الحكومية السيطرة على طريق فرعي جنوب المدينة في مارس/آذار 2016 ليصير المنفذ الوحيد إلى المدينة.
وبعد مرور 3 آلاف يوم، ينظم النشطاء والسلطات المحلية حملة تطالب بإعادة فتح المنافذ. ووفق بيان للمحتجين، فإن "هذا الحصار لا غرض عسكريا يبرره.. مما يعني أنه عقاب للمدنيين وانتهاك لاتفاقيات جنيف التي تحظر تجويع المدنيين كأحد أساليب القتال".
لكن علي القحوم، عضو المجلس السياسي التابع للحوثيين (أعلى هيئة تنفيذية)، يقول للجزيرة نت إن "هناك محاولات تضليل ممنهجة ومغرضة للتشويه والدعاية والكيد والابتزاز السياسي فيما يخص تعز".
ويضيف "مدينة تعز كبيرة، ولها طرق مفتوحة تربطها بعدد من مديرياتها، ويتنقل فيها الناس دون صعوبة، عدا طريق تربط بين المدينة والحوبان قُطعت بسبب المعارك، وأُغلقت من الطرفين".
غربة داخل المدينة
ويتمسك اليمني مطيع محمد بعمله في مصنع بمنطقة الحوبان، بعد أن فقد الآلاف من اليمنيين وظائفهم، غير أنه ابتعد عن أسرته ولا يعود إليها إلا في المناسبات والأعياد.
ويقول للجزيرة نت إن صعوبة التنقل بين منزله ومقر عمله حرمه من عائلته، رغم أن المسافة بين المنزل والمصنع لا تزيد على 4 كيلومترات كانت تستغرق 15 دقيقة قبل إغلاق الطريق، لكنه اليوم يقطعها في أكثر من 6 ساعات عابرا طرقا جبلية وعرة ونقاط تفتيش.
وصارت الحواجز الأمنية بمثابة كمائن، واتهم تقرير صادر عن السلطات الحكومية الحوثيين باختطاف 719 مدنيا من نقاط التفتيش على الطرق البديلة في تعز خلال 7 سنوات.
ويقول مطيع "أعيش في غربة، وكأنني في دولة وأسرتي في أخرى، والوصول إليهم صار مكلف ماديا وخطرا".
واضطُر فؤاد إبراهيم لبيع منزله وسط المدينة، وانتقل لمنطقة الحوبان حيث يقع دكانه، ويقول "صبرنا لسنوات حتى يُعاد فتح الطرق، وفي النهاية أُجبرت على بيع منزلي وغادرت الحي مرغما".
في انتظار الموت
قبل عامين، حاول منير الأكحلي إسعاف قريبه الذي أُصيب بحمى "الضنك"، لكن صعوبة وصول السيارات للحي المغلق حال دون نقله إلى المستشفى ليموت داخل المنزل، وبعد أشهر لحق به والد منير الذي كان مريضا بالسرطان.
ويقول عضو اللجنة الوطنية للتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان بالحكومة اليمنية ماهر العبسي، إن كل سكان تعز تأثّروا بالحصار بشكل مباشر أو غير مباشر، جراء ارتفاع الأسعار وانعدام الرعاية الصحية والمياه والخدمات.
ويشير للجزيرة نت إلى تلف شحنة لقاحات أطفال تابعة لمنظمة الأمم المتحدة للأمومة والطفولة (يونيسيف) بعد بقائها مدة طويلة في الطريق.
وتتضاعف المعاناة لدى مرضى السرطان والفشل الكلوي الذين يترددون من الأرياف على المستشفيات المركزية داخل المدينة، من أجل الحصول على العلاج، ويُرغمون على قطع تلك الطرق.
ويقول العبسي "بعض مرضى السرطان والفشل الكلوي لا يذهبون للعلاج بسبب عجزهم عن دفع كلفة السفر وتحمل متاعب الطريق، وانتظروا الموت في منازلهم".
حياة مكلفة وشاقة
وباتت المعيشة في المدينة مكلفة ومجهدة، وارتفعت الأسعار بسبب زيادة كلفة النقل الذي لم يعد له سوى طريق فرعي واحد ضيق يربط المدينة بمدينة عدن، وغالبا ما يُغلق لأيام بسبب وعورته ووقوعه على مجرى السيول.
ويلجأ السكان لحلول بديلة، إذ اضطروا للاعتماد على صهاريج المياه المنقولة على الشاحنات والمكلفة عوضا عن المياه المركزية التي انقطعت بسبب وجود أكثر من 80 بئرا مركزيا تضخ المياه في المناطق المحاصرة.
وقال محافظ تعز نبيل شمسان - في مؤتمر صحفي السبت- إن "الحصار تسبب بأزمة مياه تصل إلى 75% من احتياج السكان، وتدمير 50% من شبكة الطرق التي زاد طولها وكلفتها إلى 1000%، بينما ارتفعت أسعار السلع بنسبة 35%".
مفاوضات فاشلة
وغالبا ما قايضت الحكومة اليمنية خلال جولات التفاوض إعادة فتح مطار صنعاء وميناء الحديدة مقابل فتح الحوثيين المنافذ والطرق في تعز، ورغم تحقق المطلب الأول فإن الأخير لم يُنفذ.
ويقول عضو المجلس السياسي التابع للحوثيين علي القحوم إن فتح مطار صنعاء وميناء الحديدة هو من تدابير الهدنة وخفض التصعيد التي تعالج الملفات الإنسانية لعموم اليمنيين كحزمة واحدة دون تجزئة، في إشارة إلى المفاوضات بين السعودية والجماعة.
والعام الماضي قادت الأمم المتحدة في العاصمة الأردنية عمّان مفاوضات لفتح الطرق في تعز، انتهت بمقترح لإعادة فتح الطرق تدريجيا.
ويقول عضو الوفد الحكومي في الفريق المفاوض لفتح الطرقات محمد المحمودي إن الحوثيين يرفضون فتح المعابر منذ مشاورات الكويت في عام 2016، حتى مفاوضات الأردن التي قبلتها الحكومة.
ويضيف للجزيرة نت أن قادة قبليين وسياسيين يمنيين قادوا جهودا لفتح الطرق، وقدموا مبادرة لفتح خمسة منها ووافقت عليها الحكومة، لكن الحوثيين لم يردوا على ذلك المقترح، كما أن الحكومة وافقت على مبادرة سابقة قادها أكاديميون لفتح المنفذ الشرقي ورفضها الحوثيون أيضا.
من جهته، يقول القحوم إن جماعته بذلت جهودا لفتح طريق آمنة وميسرة من مدينة تعز إلى الحوبان من جانب واحد، لكن الطرف الآخر تنصل ورفض كل الخيارات والآليات التي تؤمّن الطريق والمارة.
ويوضح المحمودي أن مقترح الحوثيين هي طريق مستحدثة تمر عبر مواقع عسكرية وخطوط مواجهات، مشيرا إلى أن الأولوية تكمن في إعادة فتح الطرق المغلقة بدلا من فتح طرق جديدة.
ويقول "لا ندري ما الذي يريده الحوثيون من استمرار الحصار، يبدو الأمر فقط عقابا لتعز وأهلها الذين أوقفوا مشروعهم".