مر اليمن على امتداد تاريخه بمراحل عصيبة اقترب فيها من حد الوقوع في حال من الانهيار الكامل الذي لم يمنع حدوثه إلا وجود قيادات قدمت المصلحة الوطنية على الذاتية وترفعت عن الغرق في خلافات جانبية ترهق البلاد والمواطنين، وليس أدل على ذلك من الصراعات التي حدثت بعد قيام ثورة الـ26 من سبتمبر (أيلول) 1962 التي على رغم عمق التباينات في الرؤى بين زعمائها إلا أن هدف حماية الجمهورية والثورة كان المشترك الثابت بينهم والمحدد الصارم والضابط الأوحد لمواقفهم ولعدم تجاوز أهدافها.
حين يجول المرء ببصره في الواقع الحالي فلا بد أن تصيبه الحيرة والحزن للمآل الذي وصل إليه غموض المشهد وانعدام الرؤية، إلى الحد الذي صار فيه البحث في إيجاد المخارج الآمنة، فكرة تبدو خرافية وربما عدمية لأن الخيال السياسي عند "أطراف" الحرب لم يعد يسمح بأكثر مما نراه أمامنا من فوضى عارمة وانحطاط في المستوى الأخلاقي الذي يسبب العجز المحزن ويمنع ابتكار الحلول الناجعة للخروج من رحلة التيه التي بدأت مع مؤتمر الموفينبيك، وأقول التيه لأنها ضخمت الآمال فخرجت عن نطاق الواقع اليمني وحدود الممكن.
لا شك أن الـ21 من سبتمبر 2014 كان تتويجاً لمسار من تراكم الأخطاء بدأ مع دخول المرحلة الانتقالية حيز التنفيذ في الـ21 من فبراير (شباط) 2012 باختيار نائب الرئيس عبدربه منصور هادي مرشحاً وحيداً لمنصب الرئاسة بديلاً عن الرئيس الأسبق علي عبدالله صالح الذي تنازل عما تبقى من مدته الدستورية بموجب المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية، وجرى الاستفتاء الشعبي وانتقلت بموجبه سلطة الرئاسة الدستورية إلى رئيس جديد ظن كثير من اليمنيين أنه سيفي بوعده بعدم الاستمرار في تبوئها أكثر من مدة العامين المنصوص عليها في المبادرة والآلية، ولكن جشع السلطة ومباهجها كانت أقوى من النصوص المكتوبة وابتكر المستشارون تفسيراً شاذاً بأن المقصود بالآلية التنفيذية "المزمنة" هو "إنجاز المهمات" وليس الزمن على رغم أن أي رئيس منتخب مقبل كان يمكنه مواصلة التنفيذ دونما حاجة إلى الرضوخ لرغبة هادي وإرضائه ثم استمراره في السلطة إلى حين إقصائه في السابع من أبريل (نيسان) 2022.
سيظل البحث عن المسار الجاد لإيقاف الحرب اليمنية نهائياً مسألة غير ممكنة حالياً لأن التركيبة التي فوجئ بها اليمنيون في السابع من أبريل 2022 لم تضع الإطار الذي يحقق هذا الأمر، بل يمكنني القول إنها زادت الأوضاع تعقيداً، لأنها لم تضع في الحساب طريقة جادة لحسم الخلافات بين المكونات التي يفترض أنها تسعى إلى تحقيق هدف واحد، وهذا أدى إلى شلل في تسيير أعمال المؤسسات المدنية والعسكرية.
إن حال الهدوء التي يشهدها اليمن حالياً لن تستمر، لأن عوامل إبقائه تحت السيطرة ستنهار سريعاً تحت وطأة الأحوال الاقتصادية والمالية، إذ فقدت أجهزة "الشرعية" القدرة على التحكم في تأمين الإيرادات بسبب التهديدات المستمرة التي يطلقها الحوثيون بضرب المنشآت النفطية في موانئ التصدير، مما تسبب في العجز عن تأمين الحد الأدنى من النقد الذي يكفي لسداد مرتبات موظفي القطاع العام والجيش، وللأسف فإن هذا الواقع البائس يقابله عدم وجود خطة جادة تضع خطة واقعية وحقيقية لتجاوز هذا العجز، وشرح محافظ البنك المركزي أسبابه في لقاء مذاع، ولعل أهمها عدم ضبط الإنفاق الذي تزامن مع الفارق الكبير بين الإيرادات والنفقات.
وسط الانهيار الكامل في الخدمات كافة التي يحتاج إليها المواطنون تغيب الرؤية السياسية الجامعة والمطلوبة لتحقيق استقرار سياسي بين مكونات "الشرعية" لأن المشاريع التي تنفذ على الأرض متناقضة ولا ترتبط بالمصلحة الوطنية على الإطلاق، بل إنها على العكس من ذلك تزيد من تفتت المجتمع وتدفع به نحو مزيد من التمزق والاحتقان، وفي ظل هذا الواقع المزري لا يشعر المواطنون بأية خطوات جادة للتخفيف من المعاناة اليومية التي تدفع بهم نحو اليأس الكامل من الركون إلى "مجلس القيادة الرئاسي" و"الحكومة".
الطرف الآخر في صنعاء مصمم على عدم تحمل أية مسؤولية تجاه المواطنين وتحولت كل المؤسسات الحكومية التي يديرها فعلياً المشرفون إلى هياكل خاوية لا تقدم أية خدمة للمواطنين، كما أن الحكومة الموجودة تحت سيطرتها ليست أكثر من واجهة ولا يستطيع الوزراء تجاوز سلطة المشرفين الحوثيين، بل أن رئيسها ليس أكثر من موظف كبير لا يمتلك أية سلطة إدارية أو مالية ولا أحد يمكنه أن يصف الدور الذي يؤديه داخل أجهزة السلطة وحدود نفوذه إن وجدت، وهو مع وزرائه ليسوا أكثر من غطاء لما تقرره "الجماعة" التي يتحكم قادتها في كل القرارات كما يسيطرون على المؤسسات كافة ذات الإيرادات دونما اعتبار للقواعد المالية والإدارية المتعارف عليها.
وعلى رغم تضخم الإيرادات المالية التي تتراكم في البنك المركزي بصنعاء بعد فتح ميناء الحديدة أمام السفن والبضائع كافة، فإن الأوضاع المعيشية للناس لم تتحسن ولم تصرف المرتبات منذ سنوات، ولم تعد السلطة تقدم أية مساعدة للمواطنين وتحولت إلى دولة جباية بامتياز. كما أن الخدمات الأساسية تمت خصصتها وتضاعفت الرسوم الدراسية في المراحل كافة، ناهيك عن أدلجة المؤسسات التعليمية وفرض مناهج ذات طابع عقائدي.
إن من الواجب أخلاقياً وإنسانياً التراجع قليلاً عن الطموحات الزائفة، فلا "الشرعية" قادرة على تحقيق أي من شعاراتها الأثيرة ولا "الجماعة" ستتمكن منفردة من حكم البلاد طويلاً بالقسوة والبطش، وفي المساحة الفاصلة بين أوهام الطرفين يكون من الملزم أخلاقياً ووطنياً البحث أولاً عما يريده المواطن البسيط المطحون، وهو في كل الأحوال لا يتعدى تأمين قوت يومه وضمان أمنه، لأنه ما عاد يظن أن هاتين السلطتين تهتمان لأمره في الحاضر، ناهيك عن حديث المستقبل.
وعلى الجميع إدراك أن كل كوابح الانهيار الكامل في اليمن تلاشت، وما صار مطلوب هو نشوء كيان وطني يبحث أولاً وأخيراً عن مصلحة المواطنين بعيداً من الاستقطابات السياسية والمذهبية والمناطقية.
(اندبندنت عربية)