تحضر مدينة حضرموت في معادلة الصراع على الثروات وإدارة النفوذ في اليمن، إذ إن الأهمية الاقتصادية للمدينة الغنية بالنفط، وكذلك أهميتها السياسية والجغرافية في موازين القوى، جعلتها ساحة لتنافس قوى متعدّدة، من الأطراف المحلية إلى الدول المتدخلة التي باتت لاعباً رئيساً في هذا الصراع. حدّة الاستقطاب الذي تشهده حضرموت اليوم، وإن ظلت دائرة تأثيره على مستوى تنافس الأجندات السياسية بمظلاتها، قد يغذّي على المدى البعيد مشاريع التفتيت، ومن ثم ترتيب وضع خاص لحضرموت الذي قد يؤدّي إلى عزلها عن المعادلة الوطنية.
استراتيجياً، احتل جنوب اليمن، وتحديداً مناطق الثروات، أهمية مركزية للدول المتدخّلة في سياق تنمية نفوذها، بحيث أدارت السعودية والإمارات معادلة النفوذ وفق سياسة تفاهم بيني يؤدّي إلى توزيع متناسب للهيمنة ومجالات النفوذ يحافظ على توازن جغرافي بين الطرفين، ومن ثم يحمي مصالحهما، واعتمدت الدولتان على وسائل مختلفة لتحديد مناطق نفوذها وكذلك ضمان ولائها، فإضافة إلى الحواضن المجتمعية التي شكلتها جرّاء تدخّلاتها التاريخية في هذه المناطق، من القوى المجتمعية والقبلية التي صعدتها إلى الواجهة وفرضتها قوة إسناد لها، فإن وكلاءها المحليين تحوّلوا إلى سلطات ظلّ لها، تدير مصالحها الحيوية وتحميها. وأنتجت هذه السياسات المتراكمة جغرافية نفوذ ثابتة نوعاً ما في جنوب اليمن بين الحليفين. وإذا كانت الإمارات قد تمركزت في مناطق ثقل وكيلها، المجلس الانتقالي الجنوبي، كونه المظلة السياسية المحلية التي عزّزت مجالات نفوذها وضمنت لها امتيازات اقتصادية متعدّدة، فإنها، أي الإمارات، وبالإضافة إلى حليفها، استطاعت، عبر سياسة شراء الولاءات، واستقطاب واجهات اجتماعية محلية، أصبحت قوّة تحمي نفوذها في بعض المناطق الجنوبية، مقابل تكثيف السعودية نشاطها العسكري والاقتصادي في مدينة المهرة، إلى جانب مستويات من الحضور في المناطق المحرّرة، يتكئ على أشكال الولاءات التي نمتها بوصفها دولة مجاورة لليمن، وكونها طرفاً متدخلاً في الحرب، فيما احتفظت حضرموت بخصوصيتها بالنسبة للسعودية منطقة نفوذ رئيسية، يستند إلى ولاء قوى اجتماعية وقبلية.
ومع أن الديناميكيات المحلية وصراع الوكلاء التي شهده جنوب اليمن قد منحا الإمارات من خلال وكيلها الانتقالي حضوراً في مدينة شبوة الغنية بالنفط والغاز، وإن بتواطؤ السعودية لتقليص نفوذ حزب الإصلاح، وكذلك نوعاً من الحضور في هرمية السلطة في حضرموت، لم تغير هذه التحوّلات، إلى حدٍّ كبير، من خريطة توزيع النفوذ بين الحليفين، أو على الأقل لم تتحوّل بعد إلى تهديد، بيد أن تصاعد حدّة التنافس البيني، أخيراً، وتحوّل المجلس الرئاسي (السلطة التوافقية التي شكلاها) إلى مظلات لتعزيز نفوذهما فرض مستويات من التهديد بين الطرفين، إضافة إلى أن الجهود الدبلوماسية لإنهاء الحرب في اليمن، وإن تجمّدت في الوقت الحالي، فإنها ستشرعن، في النهاية، جغرافية السيطرة التي تتوزّع فيها قوى الحرب، ما دفع الحليفين إلى ترتيب وضعهما في مدن الثروات جنوباً، ومن ثم نقل الصراع إلى مدينة حضرموت، إذ إن تمدّد الإمارات في بعض موانئ حضرموت، أخيراً، يعني كسر معادلة احتكار السعودية مجالها كمنطقة نفوذ مغلقة، إلى جانب أن محاولة المجلس الانتقالي إخضاع حضرموت لسلطته، وإن على المستوى السياسي، من خلال استقطاب نخبه وضمه إلى سلطته، وأيضاً تكثيف نشاطه السياسي والمجتمعي في مدينة المكلا، عاصمة حضرموت، يعزز من هيمنة مشروعها السياسي، وبالتالي مشروع الإمارات على حساب السعودية.
ومع أن المساحة الجغرافية الكبيرة لحضرموت، وتمركز نشاط الانتقالي في المكلا، لا يشكلان ضغطاً على السعودية التي تحضر بمظلات مختلفة، من المكلا إلى حضرموت الوادي والصحراء، فإن هذا التحوّل الذي وجدته السعودية تهديداً لنفوذها دفعها إلى تبنّي وسائل تكتيكية سياسية واقتصادية تمنحها أفضلية على منافسيها.
سياسياً، دفعت السعودية إلى تشكيل مكوّن محلي في مدينة حضرموت يمثل مظلة سياسية لها، ففي 20 يونيو/ حزيران، أعلن في السعودية تشكيل مجلس حضرموت الوطني، بعد شهر من رعاية السعودية مشاورات بين نخب حضرمية، بحضور محافظ حضرموت، مبخوت بن ماضي، ومن ثم شكّل المجلس أداة سعودية جديدة ضمن سياسة تنويع نفوذها في حضرموت، إذ إن تنظيمها ورعايتها تأسيس المجلس بوصفه أول مكوّن يتم إنشاؤه بشكل مباشر من دولة إقليمية يجعله خاضعاً للوصاية السعودية، إضافة إلى أهدافه المتعدّدة من تطويق نفوذ المجلس الانتقالي، ومن ثم الإمارات في حضرموت، وتكريس أجندة ترتيب وضع خاص لحضرموت، وهو ما يتماشى مع التوجّه السعودي. ومع أن تأسيسها المجلس يمثل تحوّلاً في سياسة السعودية التي كانت تتبنّى وسائل غير مباشرة لفرض أجندتها في المدينة من قوى المجلس الرئاسي الموالية لها من الشخصيات الحضرمية إلى جانب مظلّة المجلس إلى الأسر الحضرمية المتجنّسة في السعودية، فإن حدّة التنافس مع الإمارات فرضت عليها هذا الخيار، وإن مثّل تشكيل السعودية مكوناً موالياً لها تقويضاً لسياسة التوافق في إدارة اليمن التي يمثلها سلطة الرئاسي، ومن ثم تدخل السعودية بشكل سافر في إدارة المدن اليمنية، وفرض مستقبلها السياسي، في المقابل.
ومع إعلان مجلس حضرموت الوطني تأييده المجلس الرئاسي كسلطة توافقية تدير المناطق المحرّرة بما في ذلك حضرموت، فإنه يمثل امتداداً للثقل السعودي في حضرموت. ومن جهة ثانية، عكست تسميته ومضامين الوثيقة السياسية والحقوقية التي أعلن عنها تماهيه مع سياسة إيجاد وضع خاص لحضرموت، من تسميته "الوطني" التي تعني هوية سياسة وجغرافية خاصة بحضرموت، إلى مطالبته ضم الشخصيات الحضرمية إلى قوامه من أعضاء المجلس الرئاسي والحكومة والبرلمان، والقيادات الأمنية والعسكرية في مؤسسات الدولة، ما يعني المضي في اتجاه فرض معادلة سياسية لحضرموت ونزوعاً إلى تشظية الدولة اليمنية. كما أن ورود لفظ "شعب حضرموت" في الوثيقة يكرّس هوية محلية انعزالية على حساب الهوية اليمنية، فضلاً عن مطالبته بتشكيل مكوّن عسكري للمدينة، وتأكيد مطالب مشاركته في مفاوضات الحل النهائي قوة مستقلة تمثل حضرموت، سياسياً، أيضاً، وبما يتجاوز تشكيل مكوّن موالٍ لها، دفعت السعودية بأدواتها وتحت مظلة السلطة الحالية، لتعزيز حضورها ونفوذها السياسي، وإنْ تحت غطاء تعزيز مؤسّسات الدولة في حضرموت، وتشكيل نموذج سياسي وإداري في المناطق المحررة، إذ إن زيارة رئيس المجلس الرئاسي رشاد العليمي حضرموت اتخذت في أبعادها وأهدافها تكريساً للتوجّه السعودي في إدارة حضرموت، فإضافة إلى أن العليمي، رجل السعودية في اليمن، ورمز الطبقة السياسية الجديدة الموالية لها، فإن تبنّيه، بحسب تصريحاته، استراتيجية منح حضرموت استقلالاً مالياً وأمنياً وإدارياً يعكس التوجهات السعودية، في منح حضرموت ترتيباً خاصاً بها. وسياسياً أيضاً، مثلت مرافقة نخبة حضرمية للرئيس العليمي في الزيارة من القيادات السياسية في الدولة ومن هرمية السلطة في حضرموت تأكيد ولائها للسعودية، ومن ثم لتوجهها في المدينة، ومن ثم ضد نفوذ الإمارات، اقتصادياً، وتنموياً. كثفت السعودية دعمها لحضرموت، حيث وضع العليمي حجر أساس لمشاريع تنموية تحت إشراف وتمويل المشروع السعودي لإعادة إعمار اليمن، بما يتجاوز المليار، بغرض سياسي وهو استقطاب المجتمع الحضرمي أكثر منه بهدف تنمية المدينة التي وإن افتقدت المشاريع التحتية والتنموية، فإن هناك مدينة يمنية أكثر بؤساً، لكنها خارج معادلة الصراع على النفوذ.
في معادلة النفوذ والهيمنة، يتخذ التنافس السعودي - الإماراتي بعداً أكثر خطورة في مدينة حضرموت، ومع أنه لا يمكن التكهن بتطوّراته، والخيارات التي سيلجأ لها الطرفان في المستقبل لتعزيز نفوذهما ومن ثم حسمها، بما في ذلك تحدّيات المجتمع الحضرمي، وتغير ولاءات النخب المحلية وتنقل رموزها من طرف إلى آخر التي تعيق انفراد طرفٍ بالسلطة، بيد أن هذا التنافس الإقليمي في حضرموت يعمّق من حالة الصراع في المدينة، وكذلك بين قوى المجلس الرئاسي، ومن ثم يقوّض أكثر فأكثر سلطة الوكلاء، كما يدفع إلى تشظٍّ مجتمعي وسياسي في إطار مدينة حضرموت، ففي مقابل حضرموت المدينة، وعاصمتها المكلا التي يركّز الطرفان من خلال وكلائها لتعزيز نفوذهما واستقطاب مجتمعها المحلي، فإن حضرموت الوادي والساحل، وإن شكّلت سياسياً قوى إسناد لطرفٍ ما، فإنها تفتقر للبنى التحتية، ومن ثم لمظاهر الدولة، ما يجعلها منطقة جاذبة للتنظيمات الدينية المتشدّدة، من جهة ثانية، ومع أن المكوّنات المحلية التي أنتجتها الحرب، وسلطاتها أيضاً، ليست سوى تكبير لصوت المموّل وتمثيل لأجندتها السياسية، فالأكيد هنا أن المسافة ما بين تثبيت مظاهر الدولة في حضرموت وما بين التماهي مع أجندة طرف إقليمي غير واضحة، حتى لو كانت النيات طيبة.
(العربي الجديد)