تأخذ سياسات الهوية خطورتها من تعدّيها على الهوية الجمعية للمجتمعات المحلية وتفتيتها، وتأسيس هويتها الفئوية على أنقاضها، ومع أنه لا يمكن التكهّن بنتائجها على المدى البعيد، إذ تخضع لطبيعة هذه السياسات ومجالاتها، وموقع جماعات الهوية في السلطة وقابلية المجتمع للتأثّر. وفي الحالة اليمنية، وفّرت حالة الحرب البيئة والأدوات وأشكال الدعم العابر للحدود لتكريس هوياتٍ فئويةٍ سياسيةٍ ودينيةٍ، إلى جانب مأسسة سلطات الأمر الواقع بناها الهوياتية وفرضها على نطاقاتها الجغرافية، مقابل تصدّع الهوية الوطنية الجامعة لليمنيين، بمؤسّساتها، ومن ثم يكون المجتمع بدون حماية لمواجهة وسائل الاستقطاب، وتحديدا الشرائح الفقيرة، وكذلك الفئات العمرية الصغيرة التي هي عرضةٌ أكثر من غيرها للتطويع والاستغلال من جماعات الهوية.
تتحرّك الجماعات الدينية، على اختلافها، في وسط حيوي يدعم استمراريتها، ما يمكّنها من فرض هويتها الدينية، خلافاً للجماعات السياسية التي صعّدتها الحرب، ومع كونها عاملا محفّزا في تفتيت الهوية الوطنية، فإنه يمكن تقييدها في ظروف طبيعية، إلى جانب أنها لا تملك حصرية تمثيل نطاقاتها الجغرافية، مقابل ادّعاء الجماعات الدينية حصرية تمثيل طائفتها، فضلا عن امتلاكها أدواتٍ وظيفيةً تمكّنها من التغلغل في المجتمع، من خلال خبرتها في إدارة المجالات الدعوية التعبوية والتربوية. وإذا كان العامل المرجّح لانتشار جماعة دينية وفرض هويتها هو موقعها في السلطة، فإن جماعة الحوثي تمتلك أدوات قوّة تمكّنها من فرض هويتها على المجتمعات المحلية التي تهيمن عليها، تمثيلاً، تستند الجماعة، إلى ثقلها كقوى تمثل الطائفة الزيدية، وإن فرضته بالقوة أو بشراء الولاءات، ومن ثمّ تشكّل حصرية تمثيلها الطائفة الزيدية عامل إسناد سياسي واجتماعي له دلالات كعامل استقطاب متجدّد، بحيث عكستها الجماعة في أدواتها بالسلطة، إذ إن بنية أجهزتها، على اختلافها، كرّست احتكارها مفاصل الدولة ومؤسّساتها بوصفها طائفة، وليس سلطة أمر واقع، بيد أن دائرة التأثير في سياسات الهوية تتعدّى حاضنتها الزيدية إلى المجتمع، من صبغ مؤسّسات الدولة بأيديولوجيتها إلى أشكال قسرية تستهدف الهوية الجمعية، فمن جهةٍ يمثل إخضاع الوظيفة العامة لشرط الانتماء لطائفتها أداة لاستقطاب نطاقاتٍ اجتماعيةٍ وفئاتٍ عمرية شبابية، كما أن استثمارها دوائر العلانية لتكريس أيديولوجيتها ورموزها الدينية ومقولاتها تضاعف من دائرة التأثير بشكلٍ تراكمي، إلى جانب أدواتها بوصفها سلطةً في سياق فرض سياسات الهوية.
خطورة تغيير المناهج المدرسية تتعدّى تكريس زعامات الجماعة الدينية، إلى تغيير الوقائع التاريخية
تشكّل المجالات الدعوية والتربوية إحدى أهم وسائل جماعة الحوثي في تدعيم مركزها سلطة هوية، وذلك من خلال استقطاب المجتمع هويتها، وتعبئته دينيا، وهو ما يتماثل عموما، مع توجّه الجماعات والأحزاب الدينية في اليمن التي تحرص على استثمار المجالين، الدعوي والتربوي، لفرض هويتها، كالمعاهد العلمية التي جرى تأسيسها في تسعينيات القرن المنصرم، والمراكز السلفية التي تأسست في فترات متعدّدة في بعض المناطق الشافعية، بيد أن امتياز الجماعة كونها سلطة أمر واقع، حيث توجّه كل أدواتها لفرض هويتها. وإذا كانت الدورات الثقافية الإلزامية لموظفي الدولة، وللمسؤولين وكذلك في قطاعاتها المحلية، قد ظلت بؤرا متجدّدة لاستقطاب أفراد موالين لها، وتحشيد مقاتلين، فإن سياسة بث خطب زعيمها في جوامع صنعاء أسبوعيا تعني تكريس هوية الجماعة، عبر فرض زعيم قائدا روحيا وموجّها للمجتمع، إلى جانب توظيف الأجهزة التربوية والإعلامية والتعليمية بمستوياتها المختلفة، وكذلك استحداث بنى جديدة تستهدف فرض هويتها على المجتمع، فمن جهة، تشكل وزارة التربية والتعليم التابعة للجماعة، الأداة الوظيفية الأبرز لفرض هويتها الدينية، بحيث تمكنها من تعميم نموذجها الطائفي على فئات عمرية خطيرة، وعرضة للاستقطاب بحيث تعيد تشكيل وعيها وفق هويتها الدينية، إذ إن خطورة تغيير المناهج المدرسية تتعدى تكريس زعاماتها الدينية، إلى تغيير الوقائع التاريخية، ومن ثم تقويض المشترك الوطني من خلال استهداف وعي جيل بأكمله، إلى جانب دور المراكز الصيفية التي تشكّل أداةً أكثر خطورة دعويا وتعبويا.
مأسسة جماعة الحوثي المراكز الصيفية جعلتها مؤسّسات دعوية وتربوية أيديولوجية موجهة، وإنْ كانت موسمية
تمثل المراكز الصيفية البنى الأكثر تعبيراً عن تمثّلات سياسات الهوية التي تتبنّاها جماعة الحوثي، ودورها الوظيفي حيث تولي الجماعة المراكز الصيفية أهمية كبيرة لنشر معتقدها من خلال استقطاب الفئات العمرية الصغيرة، ممثّلة بالأطفال، وتشكيل وعيها، عبر ربط المراكز الصيفية بجهازها الدعوي والعقائدي، كما أن إدارتها المراكز تعكس هيكلية أمنية، وتعبوية أيضا، ما يتماثل مع نظام الأمنيات الذي تتبعه الجماعة منذ سيطرتها على صنعاء لمراقبة السكّان، وتحشيد مقاتلين، حيث تفتح المراكز الصيفية لاستقبال الأطفال في العطلة الصيفية، وتشمل كل المناطق الخاضعة لها، من العاصمة صنعاء والمدن الأخرى إلى القرى والأرياف، بما في ذلك النطاقات القبلية، ومن ثم تضمن الجماعة التأثير على جغرافية واسعة من خلال دفع الأهالي لإلحاق أطفالهم بالمراكز الصيفية، وتتنوّع مؤسّسات المراكز الصيفية من الجوامع إلى المدارس الحكومية، ومن ثم تحويل كل المؤسّسات الدعوية والتربوية لمراكز تعبئة دينية. ومن جهة ثالثة، فإن مأسسة الجماعة للمراكز الصيفية جعلتها مؤسّسات دعوية وتربوية أيديولوجية موجهة، وإنْ كانت موسمية، إلى جانب فرضها مؤسساتٍ بديلة للمدارس الحكومية مقابل إضعاف المدارس الحكومية. ومن جهة رابعة، يعكس كادرها التشغيلي إدارة الجماعة سلطتها، وذلك بتطويع قاعدة اجتماعية متنوّعة لخدمة سياساتها الهوياتية، ففي حين ينحصر دور القيادات المحلية للجماعة في التوجيه والإشراف على هذه المراكز، يتنوّع طاقمها الإداري من القاعدة الاجتماعية الشعبية لحزب المؤتمر الشعبي التي أصبحت قوىً سائلة ومتحرّكة بين سلطات الحرب، وداعم أي قوى، سواء تماثلت مع هويتها الطائفية أم لا، إضافة إلى شخصياتٍ محليةٍ تحرّكها دوافع التماهي مع السلطة والحصول على منافع، بما في ذلك الحضور المجتمعي، يقابل ذلك أيضا تنوع الكادر التعليمي، من المدرّسين الحكوميين، وأي خبراتٍ في الحي يتم استقطابها للعمل في المراكز أو إجبارها على ذلك. ومن جهة خامسة، يعتمد تشغيل الجماعة المراكز الصيفية على استغلال الوضع الاقتصادي المتردّي للمدرّسين الذين يجدون في المراكز فرصةً لكسب قوت يومهم بأجرٍ لا يتعدى خمسة آلاف ريال يحصل عليه المدرّس في الحفل النهائي لاختتام أنشطة المراكز، مقابل تمويلها من خلال فرض الإتاوات على التجار، ومع توقف المجهود الحربي، فإن المراكز تمثل رئةً اقتصادية للجماعة.
في واقع إنتاج هويات الجماعات الدينية المتصارعة، تتضاعف خطورة المراكز الصيفية بتحوّلها إلى بنى مستدامة
في واقع إنتاج هويات الجماعات الدينية المتصارعة، تتضاعف خطورة المراكز الصيفية بتحوّلها إلى بنى مستدامة، ومن ثم قدرتها على إعادة تشكيل وعي الأطفال، بما في ذلك فرض هوية جماعة الحوثي من خلال تدريس مناهج طائفية، إلى جانب افتقار الأنشطة التعليمية في المراكز الصيفية لأي خبرات تعليمية أو مهنية تمنح للأطفال ومن ثم تصبح وسيلةً لتكريس الأمية، مقابل التركيز على تدريس عقيدة الجهاد للأطفال، التي تخترع عدو، وهو الآخر، ليس السياسي فقط من خصوم الجماعة، وإنما الآخر متمثلا بهويات دينية منافسة لها، وإذا كانت سياسات الهوية التي تتبنّاها الجماعة تتمظهر في إدارتها لسلطتها ولأجهزتها التربوية والتعليمية بشكل خاص، فإن المراكز الصيفية تعكس أيضا تمييزا طبقيا، ففي مقابل حرصها، بوصفها نخبة حاكمة، على تعليم أطفالها مهارات وخبرات تعليمية في العطلة الصيفية، أي تعليم نموذجي، فإن المراكز الصيفية تستوعب فقط أطفال الطبقات الاجتماعية الفقيرة، أو ما دون الطبقة الذين لا يملكون خيارا آخر لقضاء عطلتهم. وإذا كانت المراكز الصيفية التابعة للجماعة تستهدف أكثر من مليون ونصف طفل في مناطقها، فهذا يعني اتّساع دائرة التأثير، الذي وإن ظلّ احتمالا، لا يمكن قياسه، فإنها إلى جانب انتهاكها حقوق الأطفال بحرمانهم من عيش طفولتهم، فإنها تستقطب أطفالا مقاتلين، وتخلق جيلا عقائديا أو جيلا بلا هوية.