يعيش اليمن في هذه الأثناء جموداً مثيراً للإحباط لدى أكثر المحايدين تفاؤلاً، بعد عدة متغيرات مفتعلة كانت قد دفعت مجدداً بالنشاط الانفصالي إلى صدارة اهتمام اليمنيين، في وقت بدت فيه تحركات المجلس الانتقالي، خصوصاً باتجاه حضرموت، وكأنها صدىً لتوتر غير مرئي في العلاقات بين شريكي التحالف الرئيسيين: السعودية والإمارات.
وفيما استُدعيَ عضو مجلس القيادة الرئاسي، رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي (انفصالي) عيدروس الزُّبيدي، وفَرج البَحْسني؛ عضو المجلس الرئاسي ونائب رئيس المجلس الانتقالي، وبقية أعضاء المجلس المقيمين في الرياض، فقد خلت الساحةُ اليمنية من تهديدات نوعية وشديدة الخطورة من قبل جماعة الحوثي باستهداف منشآت مأرب النفطية، التي تضم معملا هو الثاني من نوعه في البلاد لتكرير النفط، وآخر لإنتاج الغاز المنزلي، وربما منشآت استخراج النفط في حقل صافر الذي يقع تحت سيطرة السلطة الشرعية.
تنتج حقول مأرب نحو عشرة آلاف برميل يومياً يجري تكريرها في معمل تكرير النفط بهدف تغطية جزء من حاجة البلاد من المشتقات النفطية والغاز المنزلي، بعد استئناف الإنتاج في 2019 وبعد إجراء الصيانة في معمل التكرير. وتمثل هذه الكمية المنتجة من المشتقات النفطية مصدر دعمٍ أساسيا لثاني أكبر تجمع سكاني في اليمن بعد الحرب، وهي مدينة مأرب التي يجري تصغيرها بشكل متعمد من خلال تسميتها بمديرية مأرب، في إشارة إلى حجم المساحة الجغرافية المتبقية تحت سلطة الشرعية.
تحظى مدينة مأرب المكتظة بملايين السكان بمصدر طاقة منتظم ومادة غاز منزلية بأسعار منخفضة، قياساً بسعرها في صنعاء، التي تصلها بنفس السعر، ولكن جماعة الحوثي تفرض زياداتها على الأسعار بهدف الحصول على موارد مالية. ويحصل سكان مأرب على مادتي البنزين والديزل بأسعار مقبولة قياساً بأسعارها في صنعاء، لنفس الأسباب.
وضع الحوثيون عقبات عديدة أمام تدفق حصة العاصمة من البنزين والديزل والغاز المنزلي، بدءا بأسعارها المبالغ فيها التي تضاف على الأسعار المحددة من قبل الحكومة في مأرب، وانتهاء بعقدة العملة القديمة الجديدة، والتي كرّست نظامين ماليين منفصلين تقريباً بالنظر إلى التفاوت في سعر العملتين، وحرص الجماعة على توظيف الموارد النفطية والغازية التي تأتي إليها من إيران، خصوصاً بعد فتح موانئ الحديدة ورأس عيسى والصليف الواقعة تحت سيطرة الجماعة دون رقابة، والاستغناء عن تلك التي تأتي من مأرب القريبة.
يلجأ الحوثيون إلى استخدام ورقة النفط والغاز اللذين تنتجهما مأرب كسلعة سياسية في إعادة توجيه معركتها مع السلطة الشرعية في مأرب. هذا التوجه كشفت عنه تغريدة لحسين العزي الذي يشغل منصب نائب وزير الخارجية في سلطة الجماعة بصنعاء؛ الذي هدد بتسوية منشآت مأرب النفطية بالأرض ما لم يتم تقاسم الموارد المالية لهذه المنشآت.
تبدو السلطة الشرعية في مأرب مكشوفة أمام تهديدات كهذه، فالتحالف الذي يحتكر القوة العسكرية، لم يتدخل قبلاً لمنع استهداف موانئ تصدير النفط منذ العام المنصرم، والذي فرضه الحوثيون عبر نشاط عسكري تعارض بشكل كامل مع الهدنة الطويلة التي فُرضت في البلاد برعاية الأمم المتحدة والتي لا تزال محترمة حتى اللحظة رغم انتهائها.
إن أخطر ما يمكن أن تكشف عنه تغريدة كهذه أن يكون ما يخطط الحوثيون لتنفيذه بحق المنشآت النفطية في مأرب جزءًا من مخطط تحييد الموارد الحيوية للسلطة الشرعية، تمهيداً لتقويض مقومات وجودها في الجغرافيا التي تهيمن عليها.
وإذا كان ذلك هدفاً متوقعاً للجماعة الانقلابية، فإن الأخطر أن يكون هذا المخطط جزءًا من رغبة إقليمية في خلق وقائع جديدة تتأسس على اغتيال السلطة الشرعية وجيشها ورجالها ومؤسساتها السياسية، ضمن مشهد صراع تغرق فيه الأطراف اليمنية، وتكون نتيجته محسومة لصالح أسوأ اللاعبين المحليين الذين دفعت بهم الحرب إلى صدارة المشهد الوطني.
لقد سبق للحوثيين وبدعم لوجستي خطير من إيران، أن نفذوا تهديداتهم بوقف تصدير النفط من الموانئ الجنوبية الشرقية، ليفقد اليمن مصدر دخل أساسيا لتشغيل مرافق الدولة وتأمين متطلبات البلاد من استيراد السلع الغذائية الأساسية، وتأمين مرتبات العاملين في قطاعات الدولة المختلفة والجيش والأمن. وليس لدي أدنى شك بأن هذه الخطوة قد حظيت بارتياح من جانب الجماعة الانفصالية التي تتوهم أن الجمهورية اليمنية التي "تحتل" الجنوب بنظرهم؛ تنهب مواردهم وتستثمرها لبقاء هيمنتها على الأرض والموارد.
ويقيني أن الهدف الأهم بالنسبة للانفصاليين هو إضعاف السلطة الشرعية، التي يشاركون بشكل رئيسي في إدارة مؤسساتها والتحكم في قرارها، حتى يتسنى لهم تحقيق أهدافهم الانفصالية، بعد أن تتحلل الدولة اليمنية دون جهد أو عناء.
الوضع الناشئ عن وقف تصدير النفط من الموانئ في جنوب وشرق البلاد، حيَّدَ تقريباً السلطة الشرعية برمزيتها الوطنية ودورها الدستوري المنافح عن كيان الدولة ومركزها القانوني؛ في مواجهة تهديدات الجماعات المسلحة المدعومة من الأطراف الخارجية، وأدخلها في فصل مُذل من استجداء الودائع من السعودية والإمارات، والتي تأتي بصعوبة، تسبقها مطالب (كاريكاتورية) بشأن إجراء الإصلاحات المفترضة في الأوعية المالية والإدارية، من سلطة بلا قرار ولا تمتلك حق الاستقرار الطبيعي في عاصمتها وفي الجغرافيا التي تحكمها.
الاشتراطات المرفقة بالودائع المالية، جعلتنا أمام نسخة تجريبية من الهيمنة المالية لمانحي الريع النفطي، التي يمكن تطبيقها على دول أخرى بائسة في المنطقة تحتاج إلى تدخلات مالية من دول الريع النفطي، وإلا فإن ما يحتاجه اليمن اليوم هو ضمان استقرار الدولة، وسلطتها، وفض الاشتباك الناشئ عن التغول المفتعل للمشروع الانفصالي، وتوجيه الطاقات المالية والحربية لإنهاء التمرد في صنعاء.
وذلك يفترض عملياً، أن أي موارد ستوفرها الدول المتدخلة في الشأن اليمني، إنما هي جزءٌ من معركتها الأخلاقية في هذا البلد، على افتراض أن هذه المعركة تتأسس على إيمان بأهمية ضمان استقرار اليمن ودولته وشعبه ودعم خياراته السياسية المجمع عليها، وتحييد المشاريع المثيرة للنزاعات والصراعات في هذا البلد.
(عربي21)