أفضت حالة الحرب في اليمن إلى تشظّي المعادلة الوطنية، سواء في سياقها العسكري أو السياسي، وفقاً لهيمنات القوى المحلية، وقبلها استراتيجية المتدخلين، وفي حين أنتج ذلك سلطات متعدّدة تسيطر على المناطق الخاضعة لها، أي تكريس مشهد تفتيتي، لليمن التاريخي، بمؤسّساته، وثرواته، فإن النتائج، في واقع مختلف، كجنوب اليمن، تكون أبعد، وذلك بدفع التشظّي إلى التشطير، حيث تراهن القوى المهيمنة على استثمار المظلومية التاريخية لجنوب اليمن وتوظيفها لصالحها مستقبلاً، عبر انتزاع تفويض تمثيل جنوب اليمن والقضية الجنوبية يكسبها شرعية احتكار التمثيل.
استطاع المجلس الانتقالي الجنوبي، منذ تأسيسه في مايو/ أيار 2017، مراكمة قوته السياسية والعسكرية، بحيث أصبح قوة رئيسية في الساحة الجنوبية، وجزءاً من الشرعية الانتقالية التي أنتجها المتدخّلون الإقليميون، وذلك بانضوائه في سلطة المجلس الرئاسي، إلى جانب تمددّه إلى مناطق جغرافية عديدة في جنوب اليمن، بيد أن التحوّل إلى سلطة أمر واقع، وإن منحه امتياز الأفضلية على القوى الجنوبية المنافسة له، فإن كسب مشروعية تمثيل القضية الجنوبية وحصرها في كيانه مثّل إشكالاً حقيقياً له.
ولذلك بات حسم التمثيل أولوية بالنسبة له في هذه المرحلة في ظل التحرّكات الدبلوماسية التي تسعى لإنهاء الحرب في اليمن. وفي محاولة لترتيب أوراقه، نظّم المجلس لقاء تشاورياً تحت مسمّى "اللقاء التشاوري الوطني الجنوبي" الذي عقد في عدن في الرابع من مايو/ أيار الحالي، بيد أن المؤتمر، وإن كان محاولة من "الانتقالي" لانتزاع تفويض تمثيله القضية الجنوبية بوسائل سلمية، فإن موعد وكيفية إنتاج مخرجاته ومضامينها عكست هيمنته في توجيه المؤتمر وغاياته لفرض نفسه قوّة أحادية تحتكر تمثيل جنوب اليمن، ومن ثم لم يكن المؤتمر بأي شكل حواراً سياسياً أو تشاوراً بين قوى متعدّدة، بل فرض المنظّم توجيه غاياته، فمن جهة، شكّل مزامنة انعقاد المؤتمر في الذكرى السادسة لإعلان عدن التاريخي، ومن ثم تأسيس "الانتقالي" تكريساً لحضوره السياسي.
ومن جهة ثانية، كشف تخريج صيغة الميثاق الوطني النزعة التسلطية للمجلس الانتقالي، حيث لم يكن على المشاركين سوى التوقيع على قبول الميثاق، وهو ما يعني تفويضه قوة سياسية وحيدة تمثل جنوب اليمن. ومن جهة ثالثة، عكس الميثاق رؤية "الانتقالي" أكثر من غيره من القوى الأخرى، حيث تضمّنت ديباجته ومبادئه وأسسه التباساً جوهرياً في معنى الهوية الوطنية، وذلك بافتراض تأسيسها على معطى جغرافي "جنوبي" مفترض، مقابل "شمالي" لا يستند إلى معطى تاريخي، عدا تكريس نَفَس مناطقي صراعي، كخطاب "الانتقالي" نفسه، ومن ثم استثمار دورات الصراع التاريخي، إلى جانب افتقار الميثاق مشروعاً سياسياً لإدارة المرحلة المقبلة وآلية واضحة لتنفيذ المطالب.
ففي حين حدّد الميثاق مطلب إقامة دولة اتحادية فيدرالية جنوبية على الحدود السياسية لما قبل قيام الوحدة اليمنية عام 1990، أي استعادة الدولة الشطرية السابقة المعترف بها دولياً، فإن مضامين ذلك تعني حصرَها في شكل نظام سياسي انتهى، إلى جانب أن هذه الدولة، سواء في شكل مؤسساتها أو بناها لم تعد موجودة، كما أن المبادئ الأخرى، سواء في تنظيم العلاقة بين السلطة المركزية وأطرها المحلية إلى القوانين التشريعية المنظّمة للمجتمع لم تكن في جوهرها سوى محاولة لاستقطاب قوى سياسية ومجتمعية لمشروع الانتقالي. وإذا كانت مبادئ الميثاق الوطني التي فرضها على المشاركين مجرّد تجميع لرؤى سياسية عديدة في قالب واحد، وإن كانت متناقضة، بهدف توافقها على "الانتقالي" قوة تمثل القضية الجنوبية، وعلى برنامجه السياسي في إدارة المرحلة المقبلة، فإن هناك تحدّيات موضوعية ومتجذّرة تضعف من فرصه بأن يكون الممثل الحصري لجنوب اليمن.
في سياق ديمقراطي، يقوم التمثيل السياسي على انتخاب القوى السياسية وممثليها من الشعب، بيد أن واقع الحرب في اليمن جرف أي إمكانية لإنتاج وضع ديمقراطي يمكّن المواطنين من اختيار القوى التي تمثلهم، بحيث أصبح التصعيد السياسي، وفق وسائل القوة العسكرية ودعم الحلفاء، هو من يحدّد أفضلية قوى على أخرى، وهو ما جعل من المجلس الانتقالي القوة المتصدّرة في الشارع الجنوبي، بيد أن التصدّر وفق شروطٍ قسرية لا يعني حسم تمثيل جغرافية كجنوب اليمن لها بناها الاجتماعية والسياسية المتشظّية والمتنازعة على تمثيل الساحة الجنوبية ومظلومية جنوب اليمن. وإذا كان "الانتقالي" حرص على تقديم نفسه قوة مؤهلة تمتلك القوة والسلطة، فإن هناك عوامل تعوق إمكانية أن يصبح كياناً مجمعاً عليه من أطياف المجتمع لتمثيل جنوب اليمن، فإلى جانب بنيته السلطوية التي عكست حضور قوى جغرافية محدّدة، وإن أعلن عشية انعقاد اللقاء التشاوري تعديل نظامه الأساسي لاستيعاب القوى الأخرى إلى قوامه، حيث ما زال التمثيل المناطقي يميز أجهزته العسكرية وأطره السياسية، وإن حرص على استقطاب نخبٍ محلية لدائرته، لكنها فئوية ولا تشكّل تغييراً في بنيته، فإن افتقاره طابعاً مؤسّسياً ينظم إدارته، سواء ككيان أو كسلطة انتقالية، يجعله يفتقر لأهلية إدارة الدولة المنشودة، فبعد ست سنوات من تأسيسه، لا يزال "الانتقالي" يعمل بآلية كيان مغلق، يرأسه رئيس المجلس مقابل تغييب الهياكل الأخرى، وهو ما تجلّى بآلية صنع القرار، إذ يحتكره شخص رئيس المجلس، إلى جانب عدم تدوير زعامة المجلس التي ما زال يرأسها عيدروس الزبيدي، ما يعني أن هذا المجلس (الانتقالي) لا يقبل مبدأ انتقال السلطة ومن ثم التمثيل بين زعاماته التاريخية، ناهيك عن قبول التداول السلمي في سلطة المرحلة المقبلة، إضافة إلى غياب الشفافية في مصادر تمويله، والتي تفاقم الشبهات حيال كيانٍ زُرع ومُوّل من الخارج، فضلاً عن عدم امتلاكه مشروعاً سياسياً، ولا برنامج واضحاً لديه يؤهله لإدارة الدولة، وهو ما أثبتته تجربته في السلطة، إضافة إلى خوضه صراعات وحروب الإزاحة مع قوى حاضرة في الساحة الجنوبية.
وإذا كانت حالة التشظّي في الشارع الجنوبي، وغياب قوى جنوبية محلّ إجماع مكّنت "الانتقالي" من توظيفها لصالحه، فإن حسم تمثيل القضية الجنوبية يتجاوز إقامة فعالية سياسية للتشاور، وإن عكست مقدار التمويل الإماراتي لوكيلها، حيث إن الطارئية التي وسمت تشكّل "الانتقالي" تقوّض إمكانية حسمه تمثيل القضية الجنوبية، وإن حاول تسويق سردية كونه امتداداً تاريخياً للحراك الجنوبي السلمي، فإنه قام، مشروعاً وأداة، على النقيض منه، إلى جانب تعقيدات المشهد الجنوبي التي تقوّض إمكانية احتكار التمثيل وحصريته لقوى محدّدة، وتعاطي "الانتقالي" مع هذا المشهد ومكوّناته.
شكّل الاعتماد على أدوات القوة وامتيازات سلطة الأمر الواقع استراتيجية المجلس الانتقالي في إدارة معركته لحسم تمثيل القضية الجنوبية، إلا أن تعقيدات المشهد الجنوبي تحدّ من إمكانية كسب هذا التمثيل، إذ تتعدّد القوى المحلية والاجتماعية والقبلية وتتعدّد مشاريعها وولاءاتها، بحيث من الصعب علي أي قوى سياسية أن تؤطرها وتضمن ولاءها، إلى جانب أن ممارسة الانتقالي طوال سنوات الحرب سلطة ظلّ، ثم قوة منضوية في المجلس الرئاسي، عزّزت من مخاوف القوى المحلية على اختلاف جغرافيتها، حيال إحياء نموذج سلطوي أحادي يحتكر السلطة والموارد لصالحه، فضلاً عن التمايز السياسي والمناطقي الذي عكسته تجربة "الانتقالي" في السلطة. وإذا كانت عدن مثلت مركز ثقله الأمني والعسكري، فإن إدارته المدينة كرّست سياسة عزل المجتمع بها وحرمانه من التمثيل في السلطة.
إلى جانب عدن، فإن "الانتقالي" وإن استطاع بانضوائه في سلطة "الرئاسي" تغيير المعادلة العسكرية والأمنية في أبين تحت لافتة مكافحة الإرهاب وتنظيم القاعدة، فإنه فشل في تطبيع الحياة في مراكزها الحضرية، وعدا عن استقطاب نطاقاتٍ قبلية عبر مشائخها في مهرجاناته، فإنه عمل على تهميشها واستبعادها في أطره، بما في ذلك مؤسّسات الدولة، أي حكمها وفق الصراع السياسي الماضوي الضالع مقابل أبين، إلى جانب مقاربتها بوصفها منطقة طوق لتدعيم مركزه في عدن، جنوباً، وتأمين شبوة شمالاً، ومن أبين إلى شبوة، فإنها وإن شكلت أهمية استراتيجية بالنسبة للمجلس الانتقالي بوصفها مدينة غنية بالثروات النفطية والغازية، إلا أن تجربته في إدارتها لا تختلف عن أي سلطة سابقة، عدا بالطبع عن التنكيل بخصومه السابقين، واستثمار امتيازاتها الاقتصادية لصالحه وحليفه الإقليمي.
وإذا كان حرص "الانتقالي" على حسم تمثيل الجنوب، ومن ثم القضية الجنوبية، جعله ينخرط في بناء تحالفات، وإقامة مؤتمر للتشاور، وإن عكس جغرافية محدّدة، من شخصياتٍ سياسية واجتماعية وأبناء زعامات جنوبية، وشخصيات قبلية دفعتها الإمارات للواجهة، فإن حضرموت تشكّل المعضلة الرئيسية في معادلة احتكار "الانتقالي" تمثيل القضية الجنوبية، فإلى جانب طبيعة المجتمع الحضرمي وخصوصيته في حمايه مكاسبه، فإن قواه المتعدّدة والمتباينة الأجندات تتنوع من تفضيل خيار البقاء في إطار الدولة اليمنية، إلى الفيدرالية في إطار الجنوب، فضلاً عن إقامة دولة حضرموت المستقلة. ومن ثم، انقسام الساحة الجنوبية حيال أي سلطة حاكمة، وإن كان سياقاً تاريخياً وسياسياً متجذّراً، فإن طبيعة المجلس وأدواته تؤثر في خيارات القوى الجنوبية، وفي تفويضها المجلس الانتقالي بوصفه قوة تمثل جنوب اليمن، فالصوت العالي للقوة، وإن كان مدوّياً، لا يمنحها امتياز احتكار التمثيل.
*نقلاً عن العربي الجديد