في الخامس من نوفمبر (تشرين الثاني) 2019 انضم ممثلون عن المجلس الانتقالي في اليمن إلى "الشرعية"، لم يكن ذلك كافياً لينقله من مربع المعارضة الصريحة للحكومة وقتالها إلى مربع دعمها، فاستمر في التعامل مع القضايا التي تهدف إلى تحسين أحوال المواطنين بطريقة مريبة هي أقرب إلى محاولة إفشالها منه إلى دعمها في خطواتها وتصحيح مسارها ومحاربة فسادها، فاستمر في فرض الجبايات من دون وجه حق وبلا مسوغ قانوني على التجار والبضائع التي تدخل عبر الموانئ الرسمية وأودعها في حسابات خاصة لا يعلم عنها البنك المركزي، بل وزاد أن صار له مكاتب خاصة للصرافة يتحكم من خلالها بسعر العملة المحلية، ولاحقت ممثليه تهم بالفساد.
وفي السابع من أبريل (نيسان) 2022 اختير رئيس "المجلس الانتقالي" عيدروس الزبيدي عضواً في "مجلس القيادة الرئاسي" بغرض مشاركته الإيجابية في العملية السياسية التي تسعى المملكة العربية السعودية إلى دفع الأطراف اليمنية نحو مسارها، ولكن هذا الأمل سرعان ما أجهضته تحركات أربكت المشهد داخل "الشرعية"، لأنه استمر في ممارسة دور المعارضة في وقت يصر فيه على تحصيل مكاسب المشاركة في السلطة القائمة من دون أن يدفع استحقاقاتها.
هذا الدور الذي يلعبه "الانتقالي" ازداد إرباكاً للمشهد مع انضمام عضوين من مجلس القيادة الرئاسي إلى قيادته (فرج البحسني وعبدالرحمن المحرمي) ثم نشاطه لبسط نفوذه في محافظة حضرموت، فأحدثت هذه التحركات رد فعل سريعاً بتشكيل "مجلس حضرموت الوطني" الذي حصل على دعم صريح وسريع من الرياض التي استضافت اجتماعاته التحضيرية، ثم من رئيس "مجلس القيادة الرئاسي" رشاد العليمي الذي دخل إلى الصراع عوضاً عن لعب دور الحكم المفترض أن يؤديه بين الأطراف المحلية. كما حصل مجلس حضرموت على تأييد كل خصوم "الانتقالي" ومنافسيه بغض النظر عن قناعتهم بجدواه ومع إدراكهم لغموض الدور الذي أنيط به.
إن سبب التشققات التي تظهر واضحة على جدران "الشرعية" ناتج من ضعف أدواتها وشح مواردها واختلاف أهداف قياداتها وانشغالهم بالقضايا الذاتية وغياب الرؤية المشتركة بينهم، وهي عوامل لا تسمح بتشكيل كيان متماسك يواجه جماعة "أنصار الله" الحوثية التي تواصل بإصرار وعجرفة تجريف المجتمع ثقافياً ودفعه نحو التطرف المذهبي، وهو طريق قصير جداً غير قابل للحياة، لكنه سيصل بالبلاد إلى حرب أهلية طاحنة وطويلة بخطوط طائفية ومناطقية.
قبل أيام التقيت صديقاً عزيزاً يسكن في إحدى المحافظات التي تسيطر عليها "الجماعة" وحدثني عن الحياة فيها، والواقع أن ما شرحه لي كان تعبيراً محزناً وفاضحاً عن البؤس الذي يحيط بحياة اليمني الحائر في ظل العيش تحت قهر سلطة تمكنت نسبياً من توفير مقومات العيش في حدودها الدنيا، لكنها في الوقت نفسه تفرض منهاج حياة بائس، ولكنه إلزامي لا خيار للمواطن فيه ولا حق له بالاعتراض عليه.
وفي اللحظة ذاتها فإن نفس هذا المواطن المرهق إنسانياً وثقافياً في مناطق سيطرة "الجماعة" يضع المقارنة مع أخيه الذي يعيش في مناطق "الشرعية" ويعاني داخلها تعطل كل الخدمات الأساسية وندرة فرص العمل وانقطاع الراتب ناهيك عن حال الأمن داخل تلك المناطق.
لقد استطاعت "الجماعة" إجبار التجار على استخدام ميناء الحديدة لاستقبال بضائعهم عبره، مما أدى إلى ندرة استخدام الموانئ في المحافظات الجنوبية، ولكن هذا ليس السبب الوحيد، إذ يعلم الجميع أن أغلب البضائع التي كانت تصل عبر ميناء عدن تتجه نحو المحافظات الشمالية حيث الكتلة السكانية الأكبر، وهناك أيضاً سوء المعاملة في ميناء عدن الذي يشكو كثيرون عدم كفاءة العاملين فيه.
وتمكنت "الجماعة" من ضبط الموارد القانونية وفرضت مزيداً من الجبايات والرسوم وراكمت أموالاً ضخمة في أوعية خاصة بعيداً من دفاتر البنك المركزي التابع لها في صنعاء، الذي وإن كانت تسيطر عليه كلية إلا أنها تريد الإبقاء على الأرقام التي تحصل عليها في مؤسسات مالية خاصة بها لا تدخل ضمن الوثائق الرسمية، وهو ما يصنعه "الانتقالي" في المناطق التي يتمكن من السيطرة على مداخيلها.
هنا لا بد من التوقف قليلاً للبحث عن "الشرعية" التي صار الكل ينظر إليها بحسرة وبسخرية، إذ أظهرت عجزاً يثير الشفقة وتحولت إلى جسد يتآكل من داخله بسرعة تبعث على القلق لأن الانهيار الكامل ليس أكثر من مسألة وقت ويزيد من تعقيد الأمر عدم الانسجام الذي يعبر عنه عدم قدرة "مجلس القيادة الرئاسي" على الاجتماع الدوري في قاعة واحدة إلا في الرياض فيما ندر، وأنقذه وباء الكورونا الذي أدخل تقنية اللقاءات عبر الـ"زووم" وتبادل الرسائل بالـ"واتساب".
إن الأداء الذي تمارسه "الشرعية" لا يمكن أن يبعث الأمل في تحقيق أي إنجاز يجعل منها نموذجاً يتمناه الناس لحكمهم، بل على النقيض صارت مصدر إحباط لتهاونها في ممارسة سلطتها ولا يكفي الصراخ الدائم للمجتمع الدولي للضغط على الحوثيين لتبرير عجزها عن الحضور بين الناس والاقتراب منهم، لأن ابتعادها يزيد من حنق الناس ويأسهم منها.
استمرت "الشرعية" في الهرب من الواقع منذ عام 2015 بعد ثلاث سنوات من الإهمال في الداخل، واستشرى الفساد في مؤسساتها، وكان ذلك كافياً لانهيار ثقة المانحين الإقليميين والدوليين بأجهزتها وصار المسؤولون أنفسهم ينتقدون الفساد الذي يغرقون فيه ويتقاذفون الاتهامات، ولم يدافع أي منهم عن مصالح الناس، مكتفين بالنشاط اليومي عبر التغريدات والمنشورات ليظهروا مهاراتهم في رص المفردات، ومن المؤسف أن أغلب قادة الأحزاب التي ينتظر الناس منهم التصدي لكل ما يضر البلاد هادنوا السلطة ليذوقوا من حلاوتها ويستمتعوا بمباهجها.
(اندبندنت عربية)